عني الأندلسيون بمظاهر الطبيعة في بلادهم، وصفوها فأحسنوا الوصف، وصوروها فأبدعوا التصوير، وبثوها آلامهم وأشجانهم، وصفوا الأرض وما عليها من: أنهار ووديان وجبال وأشجار وأزهار وثمار.
ولم يفت الشاعر الأندلسي أن يهتم بطيور الرياض، فوصف ألوانها: بنقائها وزركشتها، وأجاد في رسم أشكالها، وانتشي بغنائها العنب، وتغريدها الشجي.
شكلت الرياض مكاناً أميناً ورحيباً لتلك الأطيار التي تمرح على أعضائها، وتغرد علي روابيها، وتصدح بوحي من سحر أنغامها، ورقة نوَّارها، قد نالت الطيور من الإنسان مودة واضحة، وتغنى الشعراء بحنينها ورقتها، ومن تلك الطيور: البلبل والقمري والزرزور والنسر والقطا، بيد أن الشعراء أبدوا الشاعر جلَّ اهتمامهم بطائر الحمام من بين تلك الطيور، إذ كان من أكثر الأطيار وروداً على ألسنة الشعراء؛ لما يتمتع به من جمال فاتن، وتنوع في الأشكال والألوان، وما يصدر عنه من غناء شجي، وتغريد عذب، يثير في النفس أشجانها، ويهيج في القلب أحزانه.
لقد تَرَدَّدَ ذِكْرُ الحَمامِ في أشعارِ العَرَبِ، وما يَهِيجُهُ نَوْحُها مِن كوامِنِ الأشواقِ، ولَوْعَةِ الحنينِ، وحُرْقَةِ الجَوَى. ففي رقَّةِ تَسْجيعِهِ ما يَبْعَثُ التَّذكُّرَ، ويُولِّدُ الشُّجونَ، ويَهيجُ الأسَى، ويُجدِّدُ رقَّةَ القلبِ؛ حتَّى يجعل البكاءَ فَرْضًا معها، والتَّصابي لازمًا لأجلِها.
رسم الشاعر الأندلسي للحمام لوحات شعرية نابضة بالحياة والحيوية ضمَّت عناصر متعددة من الطبيعة، انعكست فيها أحوال الشعراء النفسية والعاطفية، وأحوال بلاد الأندلس وما تميزت به من بيئة طبيعة واجتماعية وسياسية. ونحن نرصد هنا- إن شاء الله- ألواناً من تلك اللوحات والمشاهد.
أ – الحمام عنصر من عناصر الطبية الأندلسية:
دأب الشاعر الأندلسي على رسم لوحات بارعة، أنيقة الألوان، محكمة الظلال، زاهية الأصباغ للرياض، وما اشتملت عليه من أشجار وأنهار وظلال وأطيار، لوحات تشد انتباه القارئ وتستوقفه، وتثير انتباهه، وتستقطب إعجابه، وكانت أداته في ذلك التشبيه العذب، والاستعارة الجملية، والصنعة الخفيفة، والموسيقى الرقراقة المناسبة للجو النفسي.
فالشاعر ابن خفاجة يرسم لوحة فاتنة للرياض وما فيها من عناصر الطبيعة ومن بينها الحمام، فيصف جواً مرحاً في إطار من اللهو جاء على شكل نزهة في رحاب الطبيعة، وقد أناخ ذات يوم بإحدى الأشجار هي شجرة السرح، يقول:
سقياً ليـــوم قد أنخت بســـــــــرحة
ريا تلاعبــــها الريـــــــــــاح فتلعب
سكرى يغنّيـــها الحمام فتنـــــــثني
طربا ويسقيـــها الغمام فتشـــــرب
يلهو فترفع للشبيبة رايـــــــــــــــة
فيـــه، ويطلع للبـــــــــهارة كوكب
والروض وجــه أزهـــر، والظل فر
ع أسود، والماء ثـــغر أشنــــــــب
في حيث أطربنا الحمام عشيـــــــة
فشدا يغنيـــــــــــنا الحمام المطرب
واهتز عطف الغصن من طرب بنا
وافتـــــر عن ثغر الهلال المغرب
فكأنــه والحسن مقتـــــــــــرن به
طوق على بــــرد الغمامة مذهب
رسم الشاعر في هذه الأبيات منظراً طبيعياً اتخذ الحمام فيه من الأغصان وطنَ شدوه، يغني عليها أعذب الألحان، وشكلت الروضة إطاراً عاماً لموضوع اللوحة، وجاء الحمام في إطار تمتع الشاعر بمناظر الطبيعه الغناء ذات الفتنة الرائعة، فقد عرض مشاهد طبيعية جمّة وخصها بالوصف:الأشجار بأغصانها اللدنة، وبنسماتها العليلة والغمام يحمل الخير، والندامى يشربون ويغنون ويطربون، والهلال يزيّن بحسنة وجماله منظر اللوحة الطبيعية، كان الشاعر رساماً بارعاً شأنه في ذلك شأن المصور الذي فتنته الطبيعة، فبادر إلى تخليد افتتانه قي لوحة يؤطر داخلها صورة الحمام الذي يغرد بأنغامه العذبة المطربة، والتي انتزعها من حوله، وآثر انتقاءها بعناية فائقة.
وفي منظر من المناظر التي رسمها الشاعر للحمام في خيال بديع، وهو في أحضان الطبيعة الفاتنة الساحرة، في مجلس من مجالس الأنس، وقد جعل شدوه وغناءه مصدر سعادة ، يقول الشاعر ابن سفر في وادي المرية بلدته:
واشـرب على شـدو الحمام فإنـــــه
أشهى إلي من الغريض ومعبـــــــــد
أتـراه أطـربـه الـخـلـيــــــج وقد رأى
تصفيقـه تحت الغصون الميّــــــــــد
وكأنـــــــهن رواقص من فوقــــــــه
وبها من الأزهـــــار شبـــــــــه مقلد
جعل الشاعر في هذه المقطعة شدو الحمام ووقعه في سمعه أروع من غناء مغنيي المدينة: الغريض ومعبد. كأنما أطربه شدو المياه وخريرها تحت الغصون الراقصة المطوقة لجيدها بالأزهار الجميلة، لما فيه من عذوبة ولحن سامٍ رقراق، سانده خيال رائع وتصوير بديع.
وفي لوحة أخرى يرد فيها الحمام عنصراً من عناصر الطبيعة يقول الشاعر ابن خفاجة:
بحديـقة مثـل اللَّمـى ظِلـاَّ بـــــــــها
وتطـلعت شَنَبا بها الأنــــــــــــــوار
رقص القضيــــبُ بها وقـــد شرِبَ
الثرى وشـدا الحمامُ وصَفَّق التيار
غَنّــاء ألحَـفَ عِطفَـــــــــها الوَرَقُ
النّدي والتـــفّ في جَنباتها النـوّارُ
فَتــــطـلّعت في كل مَـوِقع لحــــظةٍ
من كل غُصـــنٍ صَـــفحةٌ وعِـــذارُ
فالطبيعة هي المعنى التي تتفجر منه شاعرية الشاعر، وفي أرجائها يطوّف خياله، إنها كائن حيّ، بصحبتها تطيب الساعات، وبأفيائها تحلو رقائق العيش، وربما كانت صرخة ابن خفاجة أصدق تعبير عن هيام الأندلسيين ببقعة لا يعدلون بها جنّة الخلد. فالطبيعة في شعره تظلّ بارزة، فإذا فرح شاركته حبورها، فهو مغرم بلوحاته يمتاح مادتها من الطبيعة كموضوع وحي لا ينضب: فالطيور قيان، وشدوها غناء، ورجعها موسيقى، والندى درر، والنور عقد والورق عطاء. ثانياً – الحمام مثير وجداني، ومنبه للذكريات:
من المألوف في الشعر الأندلسي أن تغدو الذكريات السعيدة مسترخية على وسادة الطبيعة الفاتنة، كأن ترى المشاعر المبهجة والحزينة معاً تهتز لسجع الحمام، وتهفو للمرابع والأوطان. ولا يخفى على المتتبع لصورة الحمام في الشعر العربي أن فكرة الربط بين شجو الحمام وإثارة الذكريات والآلام والأحزان هي فكرة قديمة عرفها عدد غير قليل من الشعراء في العصور المختلفة، بيد أن الشعراء الأندلسيين قد يختلفون عنهم في طريقة معالجتهم لهذا الربط والنتائج التي يرتبونها عليه، بالإضافة إلى تفننهم في تأليف الصور والجزئيات المستحسنة، وطرق المزج بين الأندلسية في مظاهرها وأشكالها وأحوالها المختلفة المعاني التي تصور البيئة الأندلسية في مظاهرها وأشكالها وأحوالها المختلفة والنفسية الأندلسية في نزعاتها العديدة، وأحوالها الكثيرة وفي ظل العديد من الظروف والملابسات.
ومن اللوحات الشعرية التي كان الحمام فيها منبهاً للذكريات السعيدة، وموقظاً لأحاسيس البهجة والسرور قول الشاعر:
ونشوان غنته حمامــــــة أيــكة على
حين طرف النــــــجم قد هم أن يكرى
فهب وريح الفجر عاطــــــرة الجنى
لطيفة مس البرد طيــــــبة المسرى
وطاف بها والليل قد رث بـــــــــرده
وللصبح في أخرى الدجى منـــــــكب
يعرى ويصغى إلى لجن فصيح يهزه
كما هز نشر الريح ريحانة سكرى
تهش إليه النفس حتـــــــــى كأنــه
على كبـــــد نعمى وفي أذن بشرى
صنع الشاعر لتلك الحمامة موكباً بهيجاً من المعاني الرقيقة وحفلاً بديعاً من الألفاظ المهموسة المموسقة المنتقاة، إنها تعكس حالة من حالات السرور والبهجة والفرح والطمأنينة التي كان يعيش الأندلسي في رحابها في ظل الأمن والاستقرار والرخاء. وهكذا أدى الحمام دوراً جوهرياً بوصفة عنصراً في اللوحة الشعرية التي رسمها الشاعر، والتي استمد عناصرها من مفاتن الطبيعة التي تحيط به، فعبر فيها عن الجانب اللاهي المفرح الضاحك من الحياة، فكان الحمام في الصورة مجلبة للسرور، وباعثاً للفرح والحبور.
وإذا كانت اللوحة السابقة قد صورت الجانب اللاهي والمشرق ورسمت طابع السرور والمرح من حياة الأندلسيين في ظل الطبيعة بألوانها الزاهية، فثمة جانب آخر مغ.... لصورة الحمام وهو الجانب الجاد الحزين من جوانب الحياة في الأندلس يكون فيه الحمام منبهاً لذكريات الشوق والحنين إلى الحبيب والأليف والأهل من ناحية، وموقظاً لذكريات الشوق والحنين إلى الأوطان والمدن التي فارقها أهلوها أو تلك التي أجبروا على تركها، والرحيل عنها بعد أن نزحوا عنها نزوحاً قسرياً من ناحية أخرى:
أ - الحمام ومشاعر الشوق والحنين إلى الحبيب:
ارتبطت الحمامة والحمام في الشعر العربي غالبا مع البين والفراق، ذلك أن نَوْحَ الحمامِ يُثيرُ الشُّجونَ، ويهيجُ الجوَى، ويُجدِّدُ الوَجْدَ. فأكثر الشعراء قد وقفوا عليها، وهي على الغصون تشجو، فكانت تذكرهم غربتهم، فمنهم من أحزنته، ومنهم من تعاطف معها، ومنهم من أشفق عليها، ومنهم من قاس غربته على أنينها.. وكانت بينهما ألفة وشجن واستنطاق، فلنسبر أغوار هذه العلاقة الغريبة والطريفة.
اتخذ الشاعر في هذه اللوحات من أحضان الطبيعة ورياضها وأيكها وأغصانها وعاءً رحيباً لكل مشاعر الشوق والحنين واللوعة التي انطوت عليها جوانحهم إبان فراقهم للحبيب والأليف والأهل يقول الشاعر:
رب ورقـــاء هتوف بالضحى
ذات شجو صــــدحت في فنن
ذكرت إلفا ودهـــرا صـــالحا
فبكت حزنــــا فهاجت حزني
فبـــــــــــكائي ربــــما أرقها
وبكاهــــــــــــا ربــما أرقني
ولقد أشـــكو فما تفهــــــمه
ولقد تشكو فما تفهــــــمني
غيــــر أني بالجوى أعرفها
وهي أيضا بالجوى تعرفني
خلع الشاعر على الحمام صفات إنسانية، فجعله يرى الشاعر يبكي، فيبكى لبكائه، ويحزن لحزنه، ويشجو لشجوه، وهذا الأداء الفني والاندغام العاطفي هو قمة الجمال والروعة والقيم الفنية العالية.
وقد يجمع الشاعر إلى وصف الحمام وصفاً حسياً خارجياً: شكله ولونه وغنائه وصفاً نفسياً، فيندغم مع الحمام، ويندمج معه، ويحقق بذلك روح المشاركة الوجدانية، يقول الشاعر علي بن حصن:
وما هاجني إلا ابـــــن ورقـــاء هاتف
على فنن بين الجزيـــــــــرة والنـــهر
مفستق طــــــــــــــــوق لازورد كلكل
موشى الطلى أحــوى القوادم والظهر
أدار على اليــــــــــــاقوت أجفان لؤلؤ
وصاغ على الأجفان طوقاً من التــبر
حديد شبا المنــــــــــــــــقار داج كأنه
شبا قلم من فضــــــــــــــة مد في حبر
توسد من فـــــــــــــــرع الأراك أريكة
ومال على طي الجنـــــــــاح مع النحر
ولما رأى دمعي مـــــــــــراقاً أرابــــه
بكائي فاستـــــولى على الغصن النضر
وحث جناحيـــــــــــــــه وصفق طائراً
وطار بقلبي حيــــــــث طار ولا أدري
رسم الشاعر في الأبيات السابقة لوحة لفرخ حمام رسماً دقيقاً أبرز فيها ألوانه في براعة واقتدار، وظلاله في إعجاز بديع، رسم كل جزء من أجزاء جسم فرخ الحمام هذا الطائر الجميل، جسد جلسته، وتابع حركته، في رقة الألفاظ ورشاقتها، وثراء المعاني وغنائها، إنها صورة ساحرة رسمتها ريشة الشاعر لفرخ الحمام على فننه، مزجها بأحاسيسه وانفعالاته. وقد استخدم الحمام رمزا لحالته، فهو الذي يبكي وينوح محزونا لفرلق أليفته، إن هدير الهديل هاجه شوقا إلى محبوبته، وجعل قلبه يذوب شوقاً وحنيناً لها، وأحس الشاعر أنه- مثله – حزين مهموم لفراق صاحبته، وما قدمه الشاعر يعد تصويراً بديعاً استطاع فيه أن يبدع منه لوحة تامة الخطوط والألوان والظلال والأضواء. وقد حاول أن يضفي على الحمائم أيضا نوعاً من مشاركة الظواهر الطبيعية له في أحاسيسه النفسية.
وثمة صور ولوحات أخرى تعكس الجانب الجاد الحزين من جوانب الحياة في الأندلس، مع ما لها من خصوصية وتفرد للشاعر في تجربته الذاتية، يقول ابن عبد ربه كذلك، وقد سمع حمامة تشجو:
وإن ارتياحي من بـــكاء حــــمامة
كــذي شجن دويتــه بشجـــــــــون
كأن حمام الأيـك حيـن تـــجـاوبــت
حزين بكى من رحمة لحزيـــــــــن
ومما قيل في ذكر الحمام قول ابن عبد ربه:
ولــــرب نائحــــــة على فــنـن
تشجــي الخلي وما به شـــجـو
وتغــــــردت في غصن أيكتها
فكأنمــــا تغريــــدها شـــــجو
يذكر الشاعر في المقطعة الأولى حمامة صادحة على الأفنان في شجو وحنين، ويبدو ثمة أن حمامة كانت ذات شجو حزين؛ مما هيجت عواطفه حتى بلغ إحساسه الشعري ذروته عندما تصور تناغم شجو الحمامة الحزين وكأنه انبعث بكاء لحزنه، وأما في المقطعة الأخيرة، فإنه يكرر الصورة نفسها بأسلوب رقيق ينم على ترجمة ذات الشاعر إزاء عجائب مخلوقات الله ـ جل شأنه ـ وبإيمانه وقدرته وتأمله، يبدو للمتابع لصورة الحمام لدى الشعراء الأندلسيين أنهم عندما يسمعون تغريد الطيور كانوا يجدون في ذلك صورة تحرك مكامنهم ونغمة تهز قلوبهم وتشدهم إلى التناغي والاندغام معه.
ويرسم الشاعر لوحة متكاملة الأبعاد لحمامة رآها على غصنها المياد ، وحاول أن يمزج حالتها من الفراق واللوعة بحالته، يقول الشاعر يحيى بن هذيل في وصف حمامة وأنينها محزونة لفراق صاحبها أو هديلها:
ومُرنّةٍ والدَّجـــــنُ ينسجُ فوقها
بُردين من طلٍ ونوءٍ بــــــــــاكِ
مالت على طيِّ الجنــــاحِ وإنما
جعلت أَريكتَــــــها قضيبَ أراكِ
وترنمت لحنين قد حلتــــــهما
بِغناءِ مُسمِعةٍ وأنّةِ شـــــــــاكِ
فَفــقدتُ من نَفسي لفرطِ تلهُّفي
نَفس الحيــــاةِ وقلتُ من أبكاكِ
حاول الشاعر أن يسقط حالته النفسية وتجربته العاطفية على الحمامة، فجسد الحمامة وهي ترن وتصدح والغيم يملأ أقطار الأرض والسماء ناسجا فوقها رداءين من طل ومطر تذرفه السحب، وهي محزونة قد مال رأسها على طى الجناح، متخذة من غصن الأراك أريكة لها ومقعدا، وشجاها فراق صاحبها، فهي تترنم بغناء ممزوج بأنين؛ الأمر الذي جعله يذكر حبه ويملؤه تلهفا لرؤية صاحبته حتى كأنما يوشك أن يفقد الحياة. ويبكي من حرقة هواه بصاحبته. ويسأل الحمامة سؤال العارف من أبكاك؟ فنحن في الهوى سواء.
وابن الخطيب؛ يبدو مستغرباً مستعجباً من هذا النوع من البكاء، وأنه يجب أن لا يدوم طويلاً، لأنه لم يصدر عن قلب جريح، وعن آهات حقيقية وإلاّ لكانت العواقب كبيرة أكبر من كونه مجرد صوت حزين، وشجو وشجن. فهي لم تسكن مسكناً وتفارقه، وهي لم تتخذ خليلاً وتجفوه، فعلام هذا البث والندب، يقول:
حمامة البان ما هذا البــــــــــــــــــــكاء
على مرّ الزمان وهذا الشجو والشجنُ
لامسكنٌ بنــــــــــــــــت عنه أنت تندبه
ولا حبيـــــــــــــــبُ ولا خلٌّ ولا سكنُ
كفّ خصيــــــــــــــــبٌ وأطواقٌ ملونةٌ
ما هكذا البثّ يا ورقاء والشــــــــجنُ
لو كنت تنــــــفث عن شوقٍ منيت به
يوماً لصــــــــار رماداً تحتك الغصنُ
إنها حالة من الآسي ولّدها الفراق في نفس الشاعر المعني، نفثات القرائح المكلومة والقلوب المعناة، إنه تصوير لفراق الأحبة والتشويق إليهم، إنه اندماج الشاعر بالطبيعة، وتصوير لمنزع الشوق والحنين في نفسه من خلال مشهد حمامة فريد. فقد كان الشاعر يستلهم من مناظر الطيور وأصواتها وألحانها وحركاتها كثيراً من جوانب الفرح والألم والسعادة والشقاء والتفاؤل والتشاؤم، تلك هي الحياة وذلك هو الإنسان في السراء والضراء. ب - الحمام عنصر مثير لمشاعر الشوق والحنين للوطن والأهل. أدى الحمام دوراً فاعلاً بوصفه منبهاً وجدانياً لمشاعر الفراق فراق الأهل والوطن، ففي قصيدة لابن زيدون يثير غناء الحمام شوقه وحنينه إلى أهله ووطنه بعد أن أبعد عن مدينته، يقول:
وأرَّق العيــــــنَ والظلماءُ عـاكفةٌ
ورقـاءُ قـــد شفَّها إذْ شفَّني حزَنُ
فبتُّ أشكو وتشــــكو فوق أيكتِها
وباتَ يهفُو ارتياحًا بينــنَا الغُصنُ
هاجت حمامة ورقاء مشاعر الشوق في نفس الشاعر، وهو بعيد عن وطنه وأهله، فاستبد به الحنين، فأخذ يبث الحمامة مشاعره وأحزانه وعواطف الشوق، وهذا النص وليد تجربة شعورية صادقة تجربة مؤلمة عاشها الشاعر، يظهر الألم من كل عناصرها وجاءت معانيها باكية، وألفاظها حزينة وصورها شاكية، وموسيقاها تفيض بأنهار من الحزن والأسى، يتبدى للمتلقي من هذه القطعة أن ابن زيدون شاعر مرهف الحس، رقيق الوجدان انعكست في شعره أحداث السياسة التي انخرط في غمارها، الأمر الذي جعله يعيش شطراً من حياته شريداً طريداً بعيداً عن الأهل والأحبة والوطن، فشعر بحزن عارم سيطر على كل كيانه وأحاسيسه، و أنشد تلك القصيدة التي يناجي فيها أهله وأحبابه، فالإنسان حين يقسو عليه الدهر، ويبوء بالخذلان ينفض يده من دنيا الإنسان ويأنس بعالم الحيوان، واجداً فيه خير ما يسري عنه ويسليه.
وقد استخدم الشعراء الأندلسيون الحمائم؛ ليبثوا بها إحساساً نفسياً معيناً، وارتبط تصويرهم في الشعر بالسجع والبكاء، كما ارتبط أيضا بتلك المقارنة التي يعقدها الشاعر دائما بين إحساسه، وبين بكاء الحمام. وفي مكان آخر يقول ابن خفاجة:
سجعت وقد غنى الحمام فرجـــــــــــــــعا
وما كنت لولا أن يغني لأسجــــــــــــــــعا
وأندب عهــــــــــــــــــــداً بالمشقر سالفاً
وظل غمام للصـــــــــــــــــــبا قد تقشعا
ولم ادر ما ابكي أرسم شبيـــــــــــــــــبة
عفا أم مصيــــــــــفاً من سليمى ومربعا
وأوجع توديع الاحبــــــــــــــــــــة فرقة
شباب على رغم الاحبـــــــــــــة ودعا
غلب الشوق والحنين على نفس الشاعر، إذ نزح عن بلده(شقر) مع مَنْ نزحوا طلباً للنجاة، كانت نفسه مفعمة بالآسي، كان يعيش في مهجرة على حين كان قلبه ومشاعره رهين وطنه ومدينته. لقد هاج الحمام في نفسه الشجو فراح يستعيد ذكرياته الدفينة في أسي ومرارة، باكياً أيامه الخوالي، أيام الصيد وعهود السنا. فسجع الحمام يخلف في النفس حسرة، وفي القلب لوعة، وفي العين دمعة، فبالحزن الممضّ يندب الشاعر ما مضي من أيامه البهيجة.
لقد قدر للأندلسيين أن يعيشوا محنة اغتراب مريرة، رحلوا عن أوطانهم، وتركوا معاهدهم وديارهم، وفارقوا أهاليهم وأحبابهم إلي غير رجعة، فظلت الطبيعة تستشير في نفوسهم أحاسيس الغربة والحنين، فالغربة في أشعارهم كانت بكاء على الطبيعة الأندلسية التي عاشوها وامتزجوا معها. فالغربة هي تذكُّر الطبيعة، والطبيعة هي الوطن ذاته، يقول الشاعر ابن سعيد:
أين حمص؟ أين أيامي بها؟
وحمام الأيك يشدو حولنــا
كم تقضى لي بها مـــن لذة
حيث للنهر خريـــر مطرب
وحمام الأيك تشـــدو حولنا
والمثاني في ذراها تصخب
أي عيـــــش قد قطعناه بها
ذكره من كل نعمى أطيـــب
وهكذا نجِدُ أنَّ أكثرَ المواضِعِ الَّتي ذُكِرَ فيه الحَمامُ: هي مَواضِعُ الحُزْنِ، ومواقِفُ الأسَى؛ فحينَ شَكَا الشَّاعِرُ الفراقَ، ووصَفَ الحنينَ والاشتياقَ؛ رأيناهُ يذكرُ الحَمامَ، ويستعينُ بها في تصويرِ وَجْدِهِ، والتياعِهِ، وحينَ فُجِعَ الشَّاعِرُ بأحبابِهِ؛ وجدناه يذكرُ الحَمامَ في رثائِهِ. واستعملَ- في كُلِّ ذلك - ألفاظًا حزينةً، ملائمةً للسِّياقِ؛ فالحمائمُ (تنوحُ)، و(تبكي)، و(تنطِقُ بالحنين)، و(تهيجُ أشجانَ الفؤاد)، وهي (محزونة)، (مفجوعة) بأليفِها. ثالثاًً- الحمام رمز ديني:
اتخذ بعض شعراء الاتجاه الديني من الحمام رمزاً للتعبير عن عواطفهم الدينية، وأفكارهم وتجاربهم الحياتية.
فالشاعر أبو إسحاق الإلبيري يربط بين بكاء الحمام وشدوه و بكاء التائب من كثرة ذنوبه ومعاصيه فيقول:
أحمامة البيـــــدا أطلت بكـــــــــاك
فبـــحسن صوتك ما الذي أبكــــاك؟
إن كان حقاً ما ظنـــــنت فإن بـــي
فــــــوق الذي بك من شديــد جواك
إني أظنك قد دهيـــــــت بفـــرقـــــة
مــــــن مؤنس لك فارتمضت لذلك
لكن ما أشكوه من فــــــرط الجـوى
بخـــــلاف ما تــجديـن من شكواك
أنا إنما أبكي الذنـــــوب وأسرهـــا
ومناي في الشكوى منال فــــكاكي
وإذا بكيــــــت سألـت ربي رحـمـة
وتـــجاوزاً فبــــــكاي غــير بــكاك
وابن عربي الشاعر الصوفي المسلم يصطنع أساليب شعراء الغزل العذري، فيكثر من الشكوى والبكاء والحنين، وقد أفاض في وصف ما يعانيه من العشق الإلهي يقول:
ناحت مطـــــــــــــــوقة بحق حزيــــــن
وشجاة ترجيـــــــــــــع لها وأنيــــــني
جرتِ الدُّمــــــوعُ منَ العيــــــونِ تفجُّعاً
لحنيــــــــــــــنها فكأنهنَّ عيــــــــــــونُ
طارحتـــــــهما ثكلاً بفقدِ وحيــــــــــدها
والثُّــــــكلُ منْ فقدِ الوحيـــــــــــدِ يكونُ
بي لاعجٌ منْ حـــــــبِّ رملـــــــة َ عالجٌ
حيثُ الخيــامُ بها وحيـــــــثُ العيـــــــنُ
من كلِّ فاتــــــــكة ِ اللِّحــــــــاظِ مريضة
أجفانُها لِظُبـــــــــــا اللِّحاظِ جفـــــــــونُ
ما زلتُ أجــــرعُ دمعتي مـــــــــن غلَّتي
أُخفي الهوى عــــــــــن عاذلي وأصونُ
وتجئ الحمامة عند الشاعر ابن عربي رمزاً للحقائق الإلهية والواردات الصوفية، وهي من مصورة "الحمامات النائحات" تتجلي في قول الشاعر:
ألا يا حمامــــــــــــات الأراكة والبان
ترَفّقْنَ لا تُضْعِفْنَ بالشــــجوِ أشجاني
ترَفّقْنَ لا تُظهرنَ بالنّوح والبُــــــــكا
خفيَّ صباباتي ومكنـــــــونَ أحزاني
أُطارحُها عند الأصيــــــلِ وبالضحى
بحنَّة ِ مشتاقٍ وأنَّــــــة ِ هيــــــــمانِ
تَنَاوَحَتِ الأرواحُ في غَيـضَة ِ الغَضا
فمالتْ بأفنـــــــــــــــانٍ عليَّ فأفناني
وجاءتْ منَ الشَّوقِ المبرَّحِ والجوى
ومن طُرَفِ البــــــــــَلْوَى إليّ بأفْنانِ
فمَن لي بجمعٍ والمحصَّب مِـــن مِنًى
ومَنْ لي بِذاتِ الأثْـــلِ مَنْ لِي بنَعْمان
تطوفُ بقلبـــــي ساعـــة ً بعدَ ساعة ٍ
لوَجدٍ وتبــــــــــريحٍ وتَلثُـــــمُ أركاني
لجأ الشاعر ابن عربي إلى الصور الحسية؛ لتجسيد معانيه الصوفية، وهكذا جاءت صور الحمام معبرة عن تجارب الشعراء الأندلسيين وأحاسيسهم، وجاءت تعبيراً فنياً صادقاً عن معاناة حقيقية للشعراء، ومشاركة وجدانية منهم نحو عناصر الطبيعة حب الطبيعة والتعبد في محرابها.
رابعاً – الحمام عنصر أساس في بناء القصيدة:
ومن مظاهر افتنان الشعراء بالطبيعة وعنايتهم بها عناية كبيرة استغلالهم للحمام بوصفه عنصراً من عناصر الطبيعة ، فجعلوها في مطالع قصائدهم ومفتتحاً لها بدلاً من الدمن والأطلال، يضعونها تيجاناً على رؤوسها متأثرين في ذلك بانفعالهم بمفاتن طبيعتهم وجمالها الساحر الخلاب. فأصبح الحمام بذلك عنصراً أساساً في منهج بناء القصيدة الأندلسية، ويتجلى ذلك واضحاً في مطالع القصائد المتعددة الأغراض والموضوعات.من مدح وغزل ووصف وغيرها. يقول ابن خفاجة في مطلع قصيدة يمدح فيها الأمير أبي إسحاق بن يوسف بن تاشفين:
سجعت وقد غنى الحمام فرجـــــــــــــــعا
ولم ادر ما ابكي أرسم شبيـــــــــــــــــبة
عفا أم مصيــــــــــفاً من سليمى ومربعا
زمانٌ تَقَضّى غَيـــــــــــــرَ عَهدِ مَحاسِنٍ
تَسومُ حَصــــــــــــــاةَ القَلبِ أَن تَتَصَدَّعا
استغل الشاعر ذكر الحمام في مطلع قصيدته, ليكون مدخلاً للحديث عن شوقه وحنينه إلى مسقط رأسه في وطنه مدينته "شقر".
وقال في قصيدة أخرى:
ألا ساجلْ دموعي يا غَمامُ
وطارحني بشجوك يا حَمامُ
وقال ابن شهيد في مستهل قصيدة له:
ومما شجاني في الغصـون حمائــم
تجاوب في جنـــــح الظلام حمائما
يرجعن ألحانا لهن شواجيــــــــــــا
فيرسلن أسراب الدموع سواجما
سقى الله أيكا ما يـــــــــزال حمامه
يهيــــج مشتــــــــاقا ويسعد هائما
في مثل هذه اللوحات التي رسمها الشعراء للحمام إبراز لقدرتهم على رسم مناظر طبيعية نابضة بالحياة والحيوية والحركة والألوان والإصباغ. لوحات هي بمثابة صورة فتية صادقة لطبيعة الأندلس فسحرها وجمالها. لوحات اعتمد فيها الشاعر في وصف الحمام على عنصري اللون والصوت والحركة، تجاوب مع الحمامة ثم مزج ذلك كله بناء جوانحه ونبضات قلبه. وهكذا نجد أن الشعراء الأندلسيين قد استخدموا الحمام استخداماً له دلالته النفسية في شعرهم، فقد وجدناهم يعبرون عن الضعف البشري في الحب عن طريق إسقاطه على الحمام، كما وجدناهم أيضا يرمزون إلى هذه الحالة وتناقضاتها معهم.